2. شجرة الأنساب
قدّم لنا معلّمنا متّى نسب الملك قبل عرضه أحداث الميلاد، بينما قدّمه معلّمنا لوقا بعد عرضه للعماد المقدّس (لو 3)، وقد اهتم كثير من الآباء بشرح هذا النسب في شيء من الإطالة، لكنّني أجد نفسي ملتزمًا بعرض مبسّط له، ألخصه في النقاط التالية:
أولاً: جاء النسب هنا في ترتيب تنازلي يبدأ بإبراهيم وينتهي بيوسف رجل مريم الذي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح، أمّا في إنجيل معلّمنا لوقا فجاء النسب في ترتيب تصاعدي من يسوع الذي على ما كان يظن ابن يوسف (لو 3: 23) إلى آدم ابن الله. يتحدّث الأول قبل أحداث الميلاد ليُعلن أن كلمة الله المتجسّد هذا وإن كان بلا خطيّة وحدث لكنّه جاء من نسل خاطئ ليحمل عنّا الخطايا التي ورثناها أبًا عن جد، لذا جاء الترتيب تنازليًا... كأن الخطايا تنحدر من جيل إلى جيل ليحملها السيّد على كتفيه. أمّا الإنجيل الآخر فيلتزم بالترتيب التصاعدي إذ يأتي بعد المعموديّة معلنًا عطيّة الرب خلالها، يرفعنا حتى يردنا إلى حالتنا الأولى "آدم ابن الله" (لو3: 38). فالإنجيلي متّى يُعلن المسيّا حامل خطايانا، والإنجيلي لوقا يُعلن تمتّعنا بالبنوّة لله فيه.
ثانيًا: اختلاف النسب في القائمتين مرجعه أن متّى وهو يُعلن عن السيّد المسيح كحامل لخطايانا يذكر النسب الطبيعي، حسب اللحم والدم، أمّا لوقا إذ يُعلن عن بنوتنا لله في المسيح يسوع يذكر النسب الشرّعي حيث يمكن لإنسان أن يُنتسب لأب لم يُولد منه جسديًا. نذكر على سبيل المثال كان القدّيس يوسف ابنًا ليعقوب جسديًا، لكنّه ابن هالي شرعًا، لأن هالي مات دون أن ينجب ابنا، فتزوّج يعقوب امرأته لينجب له نسلاً فلا يُمحى اسمه من إسرائيل (تث 25: 5-6؛ مت 22: 24). وكأن القدّيس يوسف خطيب القدّيسة مريم هو ابن لداود الملك حسب القائمتين: سواء النسب الطبيعي أو الشرّعي، بالرغم من اختلافهما.
ثالثًا: إذ كان متّى البشير يتحدّث إلى اليهود ليؤكّد أن يسوع هو المسيّا المنتظر، بدأ النسب بإبراهيم المختار، أمّا لوقا إذ يكتب للأمم انتهى النسب بآدم ابن الله، ليضم البشريّة كلها للبنوة لله.
رابعًا: جاء النسب خاصًا بالقدّيس يوسف لا القدّيسة مريم، مع أن السيّد المسيح ليس من زرعه، ذلك لأن الشريعة الموسويّة تنسب الشخص للأب وليس للأم كسائر المجتمعات الأبوية. فإن كان يوسف ليس أبًا له خلال الدم لكنّه تمتّع ببركة الأبوة خلال التبنّي. لذلك نجد القدّيسة مريم نفسها التى أدركت سرّ ميلاده العجيب تقول للسيد: "لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنّا نطلبك معذّبين" (لو 2: 48). فإن كانت الشريعة تقيم للميّت ابنا (تث 25: 5) متى أنجبت امرأته من الوَلي، فبالأولى ينسب السيّد المسيح كابن ليوسف وهو ليس من زرعه، وقد أعطاه الملاك حقوق الأبوّة كتلقيبه، إذ يقول له: "فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع".
خامسًا: لم يذكر النسب أسماء نساء عظيمات يفتخر بهنّ اليهود كسارة ورفقة وراحيل، إنّما ذكر ثامار التي ارتدَت ثياب زانية (تك 38)، وراحاب الكنعانيّة الزانية (يش 2: 1) وبَتْشبْع التي يلقّبها "التي لأوريّا" مُظهرًا خطيّتها مع داود الملك. وكما يقول القدّيس ساويرس الأنطاكي: [ليكشف أن طبيعتنا التي أخطأت وسقطت، ودارت وتعثّرت في الشهوات غير اللائقة، هي التي جاء المسيح لعلاجها، حتى أنها عندما هربت ضُبطت، وعندما اندفعت وفي ثورتها أسرعت في الابتعاد أمسكها وأوقفها، وأتى بها وقادها إلى الطريق"، "المسيح إذن وضع على ذاته نسب هذه الطبيعة التي تنجّست لكي يطهّرها؛ هذه التي مرضت لكي يشفيها؛ هذه التي سقطت لكي يقيمها، وكان ذلك بطريقة فيها تنازل ومحبّة للبشر.] ويقول القدّيس جيروم: [لم يذكر في ميلاد المسيح ونسبه اسم قدّيسة، بل ذكر من شَجَبهنّ الكتاب، وهو يريد القول بأن من جاء من أجل الخطاة وُلد من خاطئات ليمحو خطايا الجميع.]
لقد بشر الإنجيلي بنسب الملك في حرّية دون أن يخفي ما يبدو مخزيًا، كاسرًا تشامخ اليهود الذي يكرّرون القول أنهم نسل إبراهيم؛ جاء كطبيب يعالج ضعفنا لا كديّان!