تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ
«تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ، كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ في مَحَلَّهَا (أَوَانِهَا)» (أم 25: 11)
يا لروعة ويا لجمال الصورة التي يرسمها أمامنا الروح القدس في أمثال 25: 11، حيث يُشَبِّه الحكيم الكلمة التي تُقال في أَوَانِهَا وفي مَحَلَّهَا بالتفاح الشهي الجميل، الأصفر كالذهب، المُقدَّم على طبقٍ من فِضَّةٍ! وهذه الصورة لا تجد إتمامها واكتمالها إلا في شخص الرب يسوع المسيح، ذاك المجيد الفريد الذي هو موضوع الكتاب المقدس كله.
فالرب يسوع المسيح هو الكَلِمَة المتجسد..
وهو الكَلِمَة التي قيلت في أَوَانِها..
وهو مِثْلُ تُفَّاحٌ شَهي..
وهو مِثْلُ تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ..
وهو مِثْلُ تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُقَدَّمٌ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ..
1- الكلمة المتجسد:
الكلمة أحد الأسماء الرائعة لربنا المعبود، والتي تُظهر لاهوته، ويرد أربع مرات في الوحي المقدس، كلها في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا (يو1: 1، 14).
و«الكلمة» هو الأقنوم المُعبِّر عن الله وعن فكر الله، ولا يمكن أن نعرف الله إلا بواسطته؛
فقد عبَّر في الخليقة عن حكمة الله وقوته ومجده …
وعبَّر في الفداء عن محبة الله وبره …
وسيُعبَّر في الدينونة عن قداسة الله وعدله وغضبه.
ويا لجمال وإبداع إنجيل يوحنا، إنجيل الكلمة المتجسد، الذي يُفتتح باسم المسيح باعتباره الكلمة «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّه َ.... وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يو1: 1، 14).
إن الرب يسوع المسيح هو الله، كما أن الآب هو الله، والروح القدس هو الله، ولكن لا يُقال عن الآب إنه الكلمة ولا عن الروح القدس. فيسوع المسيح ابن الله، هو وحده الكلمة. إن أقنومي الآب والروح القدس قد بقيا في جلالهما غير المنظور، أما الكلمة فقد أعلن الله إعلانًا كاملاً.
وليس معنى ذلك أنه صار «الكلمة» عندما أتى إلى هذا العالم فقط، ولكن « فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ». ففي الوقت الذي لم تكن فيه خليقة، وقبل أن يتكوَّن شيء مما هو كائن « كَانَ الْكَلِمَةُ»؛ هذا هو وجوده الأزلي. «وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ (أي معه)» فالكلمة كان له وجوده الشخصي وشخصيته المتميزة قبل وجود أي كائن أو مخلوق. « وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ»، فهو الله في جوهر لاهوته الشخصي. «هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ» فهو وحده كان عند الله في رفقة متميزة مع الآب والروح القدس.
«وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا»... وإنها لَحقيقة رائعة تلك التي يعلنها لنا الوحي في هذه العبارة القصيرة! فالذي كان قبل أن يكون زمان، الذي بأمره دارت عجلة الزمن، الذي جعل الكون ينبض بالحياة، الأزلي في جوهر ذاته وفي جوهر لاهوته وفى علاقاته الأقنومية، الذي هو بهاء مجد الله ورسم جوهره، الكلمة الأزلي الأبدي؛ «صَارَ جَسَدًا». لقد اتخذ «الكلمة» الجسد مسكنًا له «وَحَلَّ بَيْنَنَا» مشتركًا معنا في اللحم والدم، حتى يستطيع أن يقترب إلينا دون أن يُرعبنا (أي13: 20،21؛ 33: 6)، وهذا ما يملأ نفوسنا بالإعجاب والتعبد.
وتبارك اسم إلهنا الذي «صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا ... مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» لأن «النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ ... َبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا» (يو 1: 14، 17).
إن «الحق» بنوره الكشاف يكشف للإنسان ماهيته ومصيره، ويظهرهما واضحين. و«النعمة» تقف شاهدة له بأنه، رغم كل الشر الذي عاشه، وعلى حساب استحقاقات شخص آخر – الرب يسوع المسيح – يمكن أن تكون البركة الأبدية من نصيبه.
«الحق» يُشخِّص الداء، و«النعمة» تُقدِّم الدواء.
«الحق» يُظهر حقيقة الإنسان، و«النعمة» تُعالج تلك الحالة التي أظهرها الحق.
«الحق» يضع الخاطئ في مركزه الصحيح، و«النعمة» تأتي بالله إليه.
و«الحق» الذي يُبين ويُقرر مطاليب الله،
يزداد بهاءً ولمعانًا لارتباطه بالنعمة.
و«النعمة» التي تسدد إعواز الخاطئ
يزيدها جمالاً أنها مرتكزة على الحق.
فيا لبهاء مجد ربنا يسوع المسيح الشخصي!!
ويا لبهاء مجد خدمته وعمله!!
2- الكلمة التي قيلت في أوَانِهَا:
لقد صار «الكلمة» جسدًا، فكانت الحادثة في ذاتها ”ترجمة“ لغة السماء إلى لغة الأرض. لقد أخذ الله الكلمة جسدًا إنسانيًا ليُعلن لنا الله، وجاء ابن الله لكي يُخبر عن الآب «اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18).
«اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ».. هذا معناه بكل بساطة أنه الوحيد الذي له فكر الآب، الوحيد الذي يستطيع أن يتكلم بما رأى ويشهد بم يعرف (يو3: 11) لأنه «لاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت11: 27؛ لو10: 22).
ويا لروعة استهلال رسالة العبرانيين «اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ» (عب1: 1،2).
لقد تكلَّم الله قديمًا «بالأنبياء» -أي بواسطتهم- وتكلَّم «بطُرُق كثيرةٍ»: بالأحلام، بالرؤى، بالرموز، بالشرائع، بالفرائض، بالذبائح،... إلخ. وتكلَّم «بأنواع كثيرة» أي ”بأجزاء كثيرة“، فقد كان يستحيل إعطاء إعلان كلي وكامل قبل مجيء ذاك الذي فيه تتبلور كل الإعلانات، والذي فيه يتجسد كل ما هو الله.
أما الآن «في هذه الأيام الأخيرة» أي ”في آخر أيام الأنبياء“، فقد كلَّمنا الله «في ابنه». ليس ”به“ بل «فيه»؛ أي في شخصه الكريم بكل كيانه: قولاً وفعلاً وحياة. لقد انتهى وقت الإعلانات الجزئية الناقصة الوقتية، وصار الله يكلمنا بطريقة أمجد وأعظم وأكمل وأوضح، فقد «كلَّمنا في ابنه» و«لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ» (غل4: 4).
إن الابن لم يكن فقط ”رسول الله“، آخِِر وأعظم من أرسلهم (مت21: 37؛ مر12: 6؛ لو20: 13)، ولكنه الابن الذي كان الله نفسه يتكلم في شخصه «عمانوئيل... الله معنا» (مت1: 23). فالشخص الذي هو «كلمته»، والذي هو أيضًا مساوٍٍٍ له، الحامل لكل أفكاره ومشوراته ومقاصده «ابنه الوحيد الحبيب»، كلًَّمنا الله الآن فيه. تكلَّم قديمًا بالأنبياء، وتكلَّم الآن لنا كاملاً وواضحًا في ابنه. وإن يسوع «ابن الله» ليس فقط يعلن لنا رسالة الآب، بل هو نفسه رسالة الآب. فكل ما عند الله ليقوله لنا الآن هو «يسوع». جميع أفكار الله وهبات الله ومواعيد الله ومشورات الله هي في «يسوع».
أي نعم. الله كلَّمنا الآن في ابنه.. فيا لروعة الكلمة التي قيلت في أوَانِهَا!!
3- مِثْلُ تُفَّاحٌ شَهي:
إن هذا العالم بالنسبة للمؤمن كالقفر (البرية) أو الوعر (الغابة). والسياحة في هذا العالم شاقة لأنه «أرض قفرٍٍٍ... خلاءٍ مستوحشٍٍٍ خربٍٍٍ»، بل إنه «القفر العظيم المخُوف، مكان حيَّاتٍ مُحرِقَةٍ وعقاربٍ وعطشٍٍ حيث ليس ماءٌ»، وهو أيضًا «أرض ناشفةٍ ويابسةٍ بلا ماءٍ» و«وادي البكاء» و«وادي ظل الموت» و«أرض الغربة والمذلة» و«البقاع» و«مكان التنانين».
وإن كانت توجد في هذا القفر أشجار فهي «شجر الوعر»؛ لا ظل مريح تحتها ولا ثمر فيه يُشتهى، فهي والعدم سواء. ولكن الرب يسوع الحبيب هو للمؤمن السائح في البرية «كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ» (نش2: 3). فكما أن التفاح يمتاز في طبيعته عن شجر الوعر، هكذا شخص المسيح يمتاز في طبيعته عن كل البنين؛ أبناء الله بالإيمان. كما أنه يمتاز أيضًا عن كل البنين من الملائكة «بنو الله» أو «بنو العلي» بالخلق (أي1: 6،13؛ 38: 7).
لقد رآه الناس هنا، لما كان على الأرض سائرًا في هذا العالم، كعِرقٍ من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال (إش53: 2)، أما لعيون الإيمان فقد كان هذا الإنسان المتضع هو الوحيد الذي فيه يجد المؤمن كل ما يرجو وأكثر، ففيه كل الكفاية لشبع القلب وراحة الضمير. نعم «كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذَلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ. تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي» (نش2: 3). وكلمة التفاح تعني هنا شجرة التفاح. والمسيح هو شجرة التفاح الحقيقي. وفي المسيح، كالتفاح، كل الكفاية للمسافر في البرية أو الوعر:
ففيه الظل الظليل، للراحة والحماية من الحرارة الحارقة..
وفيه الثمر الشهي المستديم، للشبع..
وفيه العصير الحلو، للارتواء..
وفيه أيضًا الرائحة العطرية للإنعاش،
لذلك فلا غرابة أن تقول العروس: «أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ» (نش2: 5).
وفي وجودنا تحت ظله لا نجد اللذة والراحة والشبع والإرتواء والإنعاش فقط، بل نجد أيضًا الأمن والسلامة والحفظ المستمر أيضًا لأن «اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ» (مز91: 1)، «وَيَكُونُ إِنْسَانٌ كَمَخْبَأٍ مِنَ الرِّيحِ وَسِتَارَةٍ مِنَ السَّيْلِ كَسَوَاقِي مَاءٍ فِي مَكَانٍ يَابِسٍ كَظِلِّ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ فِي أَرْضٍ مُعْيِيَةٍ» (إش32: 2).
وإننا عندما نكون قريبين منه، جالسين تحت ظله، نتلذذ ونتغذى بالتأمل المستمر في حياة وصفات وسجايا وأعمال وأقوال الإنسان الكامل كما تعلنها لنا كلمة الله المكتوبة، عندئذٍ نستطيع أن نترنم بنغمة عالية وصادقة: « فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ ... شَفَتَايَ تُسَبِّحَانِكَ. هَكَذَا أُبَارِكُكَ فِي حَيَاتِي. بِاسْمِكَ أَرْفَعُ يَدَيَّ. 5كَمَا مِنْ شَحْمٍ وَدَسَمٍ تَشْبَعُ نَفْسِي وَبِشَفَتَيْ الاِبْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي ... لأَنَّكَ كُنْتَ عَوْناً لِي وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَبْتَهِجُ » (مز63: 1-7).
«تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي» ... فكل من يقترب من الرب يسوع المسيح بالإيمان ويجلس عند قدميه وتحت ظله، تتساقط له كل ثمرات شجرة التفاح، أي كل البركات والامتيازات التي حصَّلها لنا بموته وفدائه. إنها عطاياه لنفوسنا؛ البركات الثمينة التي اشتراها لنا بدمه ومنحها لنا بروحه القدوس: غفران الخطايا.. التبرير.. الفداء.. المصالحة والسلام مع الله.. التقديس.. الولادة الجديدة.. الإحياء.. الخلاص.. عطية الروح القدس.. رجاء الحياة الأبدية وعربونها في الحياة الحاضرة.
أيها الأحباء: «ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ» (مز34:
. ودعونا إذًا لا نشكو من أشواك البرية، ولا من حَيَّاتها المُحرِقَة وَعَقَارِبَها، ولا من حرارتها اللافحة ورمالها الساخنة؛ ففي وسط البرية، لنا شجرة التفاح، والمسيح لنا في البرية، فماذا يعوزنا بعد؟!
4- مِثْل تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ:
يُشار بالذهب إلى العظمة والجلال (دا 2: 38؛ رؤ4: 4؛ 14: 14). وإلى كل ما هو رفيع القدر عظيم القيمة (أم3: 14؛ 8: 10،19؛ 16: 16؛ 25: 12). كما إلى الثبات والرسوخ (نش5: 11،14،15؛ أي23: 10؛ ملا3: 3؛ 1بط1: 7؛ رؤ3: 18). وكل هذه الصفات لا نجد اكتمالها إلا في شخص الرب يسوع المسيح.
والذهب يُشير أيضًا إلى لاهوت ربنا يسوع المسيح، وأيضًا إلى البر الإلهي كما هو ظاهر في غشاء التابوت وفي غطائه. فالتابوت من أوضح الرموز للرب يسوع المسيح، الله الظاهر في الجسد (يو1: 14؛ 1تي3: 16). لقد كان مصنوعًا من خشب السنط ومُغشّى بذهبٍ نقي من الداخل والخارج.
وخشب السنط هو الخشب الذي ينبت في البرية، وهو خشب غير قابل للفساد، لذا فهو رمز مناسب لناسوت الرب يسوع المسيح الكامل، فهو - تبارك اسمه - «لم يفعل خطية» و«لم يعرف خطية» و«ليس فيه خطية» (1بط2: 22؛ 2كو5: 21؛ 1يو3: 5) وهو - له كل المجد - «قدوس الله» (لو1: 35؛ 4: 34؛ مر1: 24) و«قُدُّوسٌ بلا شرٍّ ولا دنسٍٍ» (عب7: 26).
وشجر السنط يمكنه أن ينمو في تربة جافة جدًا، ولا تؤثر جدوبة الأرض في حجمه أو معدل نموه، وهذا يذكرنا بقول إشعياء النبي عن الرب يسوع المسيح: «نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ» (إش 53: 2).
والذهب النقي يُشير إلى لاهوت المسيح - له كل المجد - واتحاد خشب السنط مع الذهب النقي في تركيب التابوت يُشير إلى اتحاد الطبيعتين الإلهية والإنسانية في شخصه الكريم، الذي هو الله الحقيقي والإنسان الحقيقي؛ الله في كل ما هو الله، والإنسان في كل ما هو الإنسان ما خلا الخطية.
«وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ» (يو1: 1) اللاهوت
«وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا» (يو1: 14) الناسوت
«اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تي3: 16) اتحاد اللاهوت بالناسوت في ذاك الذي
«فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كو2: 9).
والكيفية التي بها يتحد اللاهوت بالناسوت في شخصه المجيد هي فوق إدراك عقول البشر «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ» (مت11: 27؛ لو10: 22)، ولكن لنا أن نؤمن ونتمسك بما أعلنه الله لنا في كلمته عن شخصه العجيب الذي صار إنسانًا وكفَّر عن الخطية على صليب الجلجثة، ومع ذلك ففي اتضاعه وصيرورته إنسانًا ظل هو هو الله. وحقًا إنه «عمانوئيل... الله معنا» (مت 1: 23)
في فاتحة العهد القديم نقرأ عن الإنسان الذي خُلق على صورة الله، وفي فاتحة العهد الجديد نقرأ عن الله آتيًا في صورة الإنسان. الخالق جاء على صورة المخلوق منه «اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ»؛ الله في وسط البشر! نعم، إن الابن المولود من العذراء، والذي قُمِّط واُضطجع في مذود هو في ذات الوقت «الله القدير... أبو الأبدية... رئيس السلام» (إش9: 6). والذي دُعي اسمه «يسوع» هو الله المخلص وحده، وهو موضوع إيماننا، وهو غرض تعبدنا.
فبحق إنه التُفَّاح مِنْ ذَهَب...
5- وهو مِثْلَ تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُقَدَّمٌ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ:
الفضة تشير إلى الرب يسوع المسيح في قيمة فدائه وكفارته. فنحن نقرأ صريحًا في كلمة الله عن «فضة الفداء» (عد3: 46-51)، وعن «فضة الكفارة» (خر30: 11-16). وفي إشعياء 52: 3 نقرأ هذا القول: «هكذا قال الرب: مَجَّانًا بُعْتُمْ (أو بعتم أنفسكم)، وبلا فِضَّةٍ تُفَكُّونَ (أي تُفدون)». ويعقب هذا الأصحاح الثالث والخمسون الذي يصور لنا عبد يهوه المبارك متألمًا ومائتًا، جاعلاً نفسه ذبيحة إثمٍ. وفي 1بطرس1: 18-20 نقرأ القول المبارك: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ... بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ».
فيا لروعة الإعلان الكامل! «الكلمة» الأزلي في جوهر ذاته وفي جوهر لاهوته وفي علاقاته الأقنومية، لما جاء ملء الزمان، صار جسدًا، ليقوم بعمل الفداء للبشر الخطاة. نعم، الكلمة الأزلي، الخالق في بدء الخلق، هو الذي اتخذ ناسوتًا ليصنع الفداء في الزمان.
وهكذا فإن التُفَّاح مِنْ ذَهَب (الرب يسوع المسيح في مجده الإلهي)، قُدِّمَ إلينا في مَصُوغٍ من فِضّةٍ (الفداء والكفارة). لأنه عندما يرسل الله ابنه إلى هذا العالم، وعندما يضحي الآب بهذه التضحية الرائعة وهي السماح لابنه الحبيب الوحيد أن يأخذ صورتنا، ويشترك معنا في اللحم والدم، وعندما يقبل ربنا يسوع المسيح أن يأتي إلى عالمنا هذا، مُخليًا نفسه من هالة المجد، مستترًا في الناسوت الذي تهيأ له، وساترًا صورة الله تحت صورة العبد، فل يمكن أن يكون لهذا إلا غرض واحد وهو الفداء (غل3: 13،14؛ 4: 14،15)، ولا يمكن أن يكون لهذا إلا معنى واحد وهو الخلاص (رو5: 9)، ولا يمكن أن يكون له إلا باعث واحد وهو محبة الله العجيبة الفائقة المعرفة (أف3: 19).
إن الله لكي يرسل إلينا رسالة القضاء والقصاص القريب الوقوع، ليس هو في حاجة لإرسال ابنه، أيّ ملاك كان يكفي لهذا العمل، وأيّ عبد يكفي لإعلان مثل هذه الرسالة. موسى كان يقدر أن ينطق بها (يو1: 17)، بل إن ضميرنا ذاته هو رسول كافٍ لمثل هذه المهمة (رو2: 15). ولكن، في ملء الزمان أرسل الله ابنه الكلمة المتجسدة، ليس ليُعلّم أو يعظ أو يعلن القضاء والدينونة، وليس ليأتي كما يأتي ملك لزيارة رعاياه في أكواخهم، ناطقًا لهم بكلمات رقيقة أو إنعامات ملكية، ثم يتركهم ناسيًا إياهم، كلا وألف كلا. الله أرسل ابنه ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت20: 28؛ 1تي2: 6؛ تي2: 14)، ولكي يطلُب ويُخلِّص ما قد هلك (لو19: 10)، ولكي ما يدعو الخطاة إلى التوبة (مت8: 13)، ولكي ما يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد (عب2: 10)، ولكي ما تكون لنا الحياة الفُضلى (يو10: 10)، ولكي ما نستطيع الآن أن نذهب إلى العالم أجمع لننادي ببشارة الخلاص المفرحة للخليقة كلها (مر16: 15).
فيا ليت مجد الرب يسوع المسيح الإلهي (الذهب)، وكمال عمله الكفاري على الصليب (الفضة)، يكونان هما موضوع رسالتنا إلى العالم أجمع، ويا ليت لسان حال كل منا «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (1كو2: 2)؛ فتكون كلماتنا كلها مثل تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ