الصليب
«لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ» (تث21: 23)
«اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا» (تث3: 13)
في سفر التثنية21: 18-23 نجد صورة رائعة لقداسة الله ونعمته في معاملاته مع شعبه. أما قداسة الله فواضحة في شريعة الابن المُعَانِد والمَارِد، المُسْرِف والسِكِّير، الذي لا يَسْمَعُ لِقَوْلِ أَبِيهِ وَلا لِقَوْلِ أُمِّهِ وَيُؤَدِّبَانِهِ فَلا يَسْمَعُ لهُمَا. فما هو حكم الناموس في هذه القضية؟ تحت الناموس، مطلوب من الأب أن يُمْسِك ابنه، ويأتِي بِهِ إِلى شُيُوخِ مَدِينَتِهِ وَإِلى بَابِ مَكَانِهِ، فَيَرْجُمُهُ جَمِيعُ رِجَالِ مَدِينَتِهِ بِحِجَارَةٍ حَتَّى يَمُوتَ، لكي يُنْزَِّع الشَّرَّ مِنْ بَيْنِهمْ، وَيَسْمَعُ كُلُّ إِسْرَائِيل وَيَخَافُونَ (تث21: 18-21).
وبالرغم من الحقيقة الدامغة أنه «لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رو3: 22, 23)، وبالرغم من أنه تبرهن خراب الجنس البشري كله، وسقوط الجميع أدبيًا بالخطية، وتبرهنت حالة الإنسان الساقط وهو في حالة التمرد والعصيان على الله وعلى السلطة المُعطاة منه للوالدين (أم 30: 11, 17)؛ بالرغم من كل هذا لا نقرأ أن شريعة الابن المُعَانِد والمَارِد قد طُبِّقت أو نُفِّذت ولا مرة واحدة في كل العهد القديم!! لقد أشفق كل أبٍ على ابنه. أَ لم يُشفق عالي الكاهن على ولديه حفني وفينحاس بالرغم من كل ما كانا يفعلانه في خيمة الاجتماع (1صم2)؟ وأَ لم ُشفق داود على ابنه أمنون الذي أذلَّ اخته ثامار، وأشفق أيضًا على أبشالوم الذي قتل أخيه أمنون (2صم13)؟ نعم، لقد أشفق كل أبٍ على ابنه.
وهل يكتب الله شريعة يعلم أنها لن تُستخدَّم أو تُطبَّق؟ حاشا ... فإن كان الروح القدس قد أملى على موسى هذه الشريعة، فلقد كان أمامه "أبٌ آخر وابنٌ آخر"؛ الآب «الَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ» (رو8: 32)؛ الآب الذي قدَّم ابنه الوحيد على الصليب.
والذي يدعو إلى التعجب والدهشة، وأيضًا إلى السجود والخشوع، هو أن هذا الابن الذي لم يُشْفِقْ أبيه عليه، هو الوحيد الفريد الذي ما كان قط ماردًا ولا مُعاندًا، حاشاه!. لقد عاش على الأرض حياة هي إنسانية في كل شيء ما خلا الخطية، وكانت كل خطوة في حياته تحمل الشهادة بمحبته الكاملة لأبيه، وتشهد لمجده الأدبي الذي لم يكن ممكنًا له أن يُستَّتر. لقد تميّز طريقه بالخضوع التام لإرادة أبيه، وأطاعه في كل شيء، واستند عليه في كل شيء. ولقد قادته طاعته الكاملة المطلقة لأبيه أن يقول أمام شبح الموت: «لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لو22: 42).
نعم – أيها الأحباء – ما كان سَيِّدي المعبود ماردًا ولا مُعاندًا، حاشاه. وما كان «ربي وإلهي» سكيرًا ولا مُسرفًا، حاشاه أيضًا. لقد كان هو النذير الوحيد الحقيقي الذي انفصل انفصالاً تامًا، من بداءة حياته إلى نهايتها، عن كل ما هو من هذا العالم، وعن كل فرح أرضي (عد6: 3؛ مت26: 29). إنه القدوس الذي لم يفعل خطية واحدة (1بط2: 22)، ولم تكن هناك في حياته قط أي تجاوب أو انجذاب لخطية ما. لقد استطاع أن يقول: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو8: 46).
فلماذا إذًا لم يُشفق الله على ابنه؟!
الإجابة التي تُظهر نعمة الله بلمعان خاص هي أن الله بذل ابنه لأجلنا، وقدَّمه كفارة لخطايانا. نحن أخطأنا وأثمنا وفعلنا الشر، وكنا بعدل نستحق الموت والعذاب الأبدي، ولكن الله «بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ» ليكون بديلاً عن المُعَانِد والمَارِد، بديلاً عن المُسْرِف والسِكِّير «لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (2كو5: 21). «فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ» (1بط3: 18)، «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إش53: 6)، «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ» (1بط2: 24).
وياله من مشهد يستحضر أمامنا محبة الله في بذل ابنه، كما يستحضر أمامنا طاعة الابن الكاملة!
لقد تحمَّل بالنيابة عنا ألم الموت، ولم ينزل عن الصليب إلا بعد أن قال: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو19: 30)، فسدد لعدالة الله حقوقها، وسدد للناموس مطاليبه، ودفع أجرة الخطية بدلاً عنا، ولم يُبقِ على الخاطىء الأثيم، الذي يُريد أن يتبرر سوى شيء واحد، هو قبول عمل المسيح لأجله.
نعم، أيها الأحباء، لم يُشفق الله على ابنه، بل سلَّمهُ إلى شيوخ مدينته؛ مدينة أورشليم، وهؤلاء بدورهم، إمعانًا في القسوة والإهانة وإظهار الكراهية له، سلَّموه إلى الرومان، لا ليرجموه، بل ليصلبوه؛ ليقتلوه مُعلَّقًا على خشبة «هَذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع2: 23 قارن يوحنا19: 10, 11).
لذلك نحن لا نتعجب أن يأتي مباشرة بعد شريعة الابن المُعَانِد والمَارِد، ذكر القول «وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ، فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً» (تث21: 22, 23 قارن يوحنا 19: 31-33).
ويُرينا الروح القدس في هذه الآيات نبوة عن الطريقة التي كان سيموت بها المُخلِّص حاملاً لعنة خلائقه. فلقد عُلِّق بين الأرض والسماء كمن لا يستحق أيًّا منهما! وقيل عنه إنه "عُلِّق عَلَى خَشَبَةٍ" إذ مات مصلوبًا (أع5: 30؛ 1بط2: 24). وكان منظرًا مألوفًا في أيام حكم الرومان أن ترى الصلبان، وكان العبد المتمرّد كان مصيره الموت بهذه الوسيلة الشنيعة التي تتضمن العار الشديد. وقد علَّم الناموس أن تعليق المجرمين المُذنبين على خشبة، كان علامة على كونهم تحت لعنة الله (تث21: 23). وفي كل مرة عُلِّق مُذنب على خشبة العار، كان هذا يُعدّ، بحسب كلمات الناموس، مكروهًا من الله القدير، وعلَّم الشعب أن الله ينظر إلى الأرض بغضب، وامتعاض شديدين، طالما ظل جسد المذنب مُعلَّقًا بغير أن يُوارى من أمام عينيه. ولكن الأمر في حقيقته كان يتضمن معنى رمزيًا يُشير بالنبوة إلى شخص سيُعلَّق على خشبة، وعليه سينسكب الغضب الإلهي ضد الخطية، وسيتعامل الله معه في تلك اللحظات الرهيبة كأنه الخطية مُجسَّمة (2كو5: 21)، وكل ما تستحقه الخطية، من عقاب وسحق ودينونة، سيقع عليه، ولكن في آلامه الكفارية هذه ستوضَّع نهاية اللعنة والدينونة على عالم فاجر أثيم.
ويُعلِّق الرسول بولس في صراحة ووضوح قائلاً: «اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ» (غل3: 13, 14).
وهكذا يظهر بوضوح أن المسيح عندما أُقتيد خارج الأسوار ليُصلَّب كان في الحقيقة يحمل ثقل خطايانا ولعنتنا. لقد عبر المسيح طريق الصليب كبديل عنا، ومُمثل لجنسنا الساقط. وفي ساعات الصليب المُرَّة جدًّا تقابل الله البار الديَّان مع مَنْ يحمل «إِثْمَ جَمِيعِنَا»؛ مع البديل الذي وُضعَّت على رأسه كل أنواع الخطايا. تقابل الله مع الفادي الذي طوعًا واختيارًا بذل نفسه عن الخطاة، فصُبَّ الله عليه الغضب صبًا، وذاق من يد الله كأسًا أشد مرارة من العلقم، ولا تُصَّف ولا يُعبَّر عنها بلغة الناس.
ومن هنا أصبح مفهومًا لماذا ارتضى الآب الأزلي أن يُسلّم الابن الوحيد إلى عذاب وألم لم يُسمع عن نظيره. وعلى هذا الاعتبار لم نرَ أحد من ملائكة الأعالي يُسرع ليخدمه، ولم تسقط نار من السماء لتأكل قاتليه. وإن كانت كل الظروف التي اجتازها المُخلِّص رهيبة ومُذهلة بحق، لكنها كلها اتحدت لتُثبت هذه الحقيقة بكل تأكيد: "هوذا الرب يسوع يحمل لعنة الخطاة".
إن لعنة الناموس هي الموت، الذي هو أجرة كسر الوصية، ولكن «اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا» (غل3: 13). وهكذا يُرينا الرسول بولس : كيف أن هؤلاء الذين كانوا تحت اللعنة لكسرهم الناموس قد اُفتدوا وتحرروا منه، ولكن لم يتم هذا بواسطة حفظ المسيح للناموس من أجلنا، كما هو شائع من البعض، ولكن بصيرورته «لَعْنَةً لأَجْلِنَا». فالصليب بكل عاره وخزيه كان هو الحكم الصادر عليه، ذاك الذي في حياته أظهر طاعة كاملة فاستحق كمال البركة.
ويالها من إشارة مُلذَة وقيِّمة لأنها تُرينا نعمة ربنا ومُخلّصنا يسوع المسيح، الذي صار لعنة لأجلنا «لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ» (غل3: 14).
لقد وعد الله أن يُبارك إبراهيم، وأن يُبارك به العالم. وبركة إبراهيم الحقيقية هي الخلاص بالنعمة بواسطة الإيمان. وفي البداية كان يجب دفع أجرة الموت المُقرَّرة عند الله، لذلك صار المسيح لعنة لكي يمتد خلاص الله بالنعمة إلى اليهود والأمم على السواء. وهكذا في المسيح (نسل إبراهيم) تتبارك جميع شعوب الأرض (غل3: 16).
أيها الأحباء: الابن المُعَانِد والمَارِد، المُسْرِف والسِكِّير بحسب الناموس لا مكان له في البيت، بل يجب أن يُرجَّم (تث21: 18-21)، ولكن لأن «اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا» فإننا نستطيع الآن أن نفرح من القلب بنعمة الله «الَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ»، وهكذا فإن النعمة تجتذب الضال من بعيد، وتُحييه وتجعله يُقيم في البيت كالابن (لو15: 11-32).
ويالها من مقابلة عجيبة!! في تثنية21 نرى يد الله تقع بالدينونة العادلة على الابن المُعَانِد والمَارِد، وفي لوقا15 نرى قلب الله يفيض حنانًا وشفقة على التائب المسكين، مؤكدًا له أن غاية سروره هو أن يقبل الضال راجعًا إليه. فالذي يُصرّ على العناد يُقابَل بأحجار الدينونة، بينما التائب الراجع يُقابَل بقبلات المحبة.
عزيزي: لقد تغيَّر الحال معي أنا أيضًا لأن ربنا يسوع المسيح وقف مكاني، مكان المذنوبية والدينونة، وحمل في جسمه على خشبة الصليب كل عقوبة خطاياي، وكل قصاص أستحقه كأجرة لآثامي. لقد مات على الصليب لكي أحيا أنا في المجد، لقد «صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا ... لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ».
فيا لَعُظْمِ نِعْمَــةٍ قبلَ الدُّهورِ أُعْطِيَتْ
في رِّبنـَا وهكـذا بشخصِهِ قد أُظْهِرَتْ
خلاصُنا بها عَجيبْ أسَـاسُهُ دمُ الصليبْ
فَلْنَبْتَهِجْ في كلِّ حينْ بذلكَ الحـبِّ العجيبْ