نشأت فى قرية فقيرة تعتمد على صيد الأسماك كحرفة رئيسية للغالبية العظمى من أهلها، وكانت معاناة القرية تكمن فى فصل الشتاء وفيه يتوقف الصيد بسبب الرياح الشديدة والأمواج العاتية، ولم يكن أهل القرية يستسلمون لهذه الظروف القاسية فكانوا يبذلون ما فى وسعهم من أجل توفير الطعام لأبنائهم، وكان الأمل فى رحلات الشتاء، والتى يطرقون فيها أبواب القرى فى المحافظات الزراعية المجاورة حاملين لهم ثمار البلح - التى تشتهر بها القرية - لمقايضتها بالأرز والقمح والذرة، وبعد عودتهم غانمين نلتف حولهم نحن الصغار لنستمع ونستمتع بنوادر رحلتهم وكيف قوبلوا بحفاوة بالغة وكرم شديد من أهل هذه القرى، وكيف كانوا يؤثرونهم أحيانًا بطعامهم ويوفرون لهم مكانا للمبيت طوال الرحلة، كانت ثروتهم التى يجمعونها من دفء مشاعر إخوانهم فى هذه القرى أعظم بكثير من تلك الحبوب التى يعودون بها، هكذا نهلت من الحب الذى كان يغمر قلوب أهل القرية وانبهرت من شدة انتمائهم الفطرى لوطنهم حتى أن أحدهم لم يفكر مطلقًا فى الهجرة إلى دول أوروبا رغم سهولة هذا الأمر حينها، لأنه لم يكن ليقبل أن يفر من جنة الوطن إلى جحيم الغربة، والحب فى هذه القرية تم ترجمته إلى بِر، وتواصل بين أهل القرية جميعًا حتى كأنهم يعيشون رغم اختلاف العائلات داخل أسرة واحدة، فكان يشكو منهم المريض فيتداعى له جميع أهل القرية بالحمى والسهر فيحملونه إلى طبيب المدينة ويسهرون حوله حتى يتماثل للشفاء، وأذكر أيضًا كيف كانت القرية تعلن الحداد أيامًا طويلة إذا ما فقدت أحد أبنائها فى حادثة من حوادث الغرق المتكررة، وكيف كان العزاء وصنع الطعام لأهل الفقيد ولمن يواسيهم واجبًا يتنافس فى أدائه الفقير قبل الغنى، رأيت أيضًا كيف كان الاحترام للكبير فريضة علينا لأنه عمٌ لنا حقيقة لا مجاز بصرف النظر عن صلة النسب، لم يكن هناك جائع بيننا رغم قسوة الحياة لأن ذلك كان سبة فى جبين القرية، ولم يكن هناك عقوق للوالدين ولا قطع للأرحام، كانت الأخلاق هى ثروتنا التى نتباهى بها ونستند عليها، ولذلك لا أستطيع أن أصدق عينى فيما تراه ولا أذنى فيما تسمعه مما يحدث بيننا الآن من مشادات ومعارك وبلطجة وقطع طرق، كل يوم عشرات الضحايا يسقطون بلا ذنب، مأساة بورسعيد وقعت عندما فرطنا فى دماء أريقت دون معاقبة المسئول عنها، لم نهتم بتحديد الأسباب التى هيأت لوقوع مثل هذه الجرائم الغريبة على أخلاق وطبيعة المصريين، لم نتحدث عن ضرورة تجفيف المنابع التى أدت إلى انتشار مثل هذا العنف الرهيب، أتذكر بعد جريمة اغتصاب فتاة العتبة قامت الدنيا ولم تقعد وبعدها أصبحت حوادث الاغتصاب أخبارًا عادية تملأ أخبار الحوادث بالصحف، لو استمر الأمر على هذا الحال سنفاجأ بحروب أهلية تطالب بانفصال مدن وقرى كما سمعنا وشاهدنا المعارك الضارية بين قريتى إطسا البلد وإطسا المحطة التابعتين لمركز سمالوط احتجاجًا على عدم انفصال القريتين، والأزمة كما أراها أزمة أخلاق بالدرجة الأولى، فإذا ذهبت الأخلاق ذهبت الأمم وسقطت بهيمنة قانون الغاب الذى يحل محل السلطة، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه نكون قد اخترنا أن نهدم دولة المؤسسات لحساب دولة الفتوات.