حقا يا لها من خيبة أمل أصيبت بها مصر من ضخامة وحجم أعمال الفساد والإفساد بأشكاله وأساليبه المختلفة التى حدثت وارتكبت، وما زالت تحدث كل يوم بأيدى أبناء شعبها، والتى بدأت منذ الساعات الأولى لقيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، استغلالا لحالة الفراغ الأمنى وانشغال الشرطة والأمن بمقاومة الثوار فى ذلك الوقت، وكان أبرزها وأبشعها على الإطلاق هو التعدى بالبناء على مئات الآلاف من الأفدنة من أخصب وأجود أنواع أراضيها الزراعية، وأقول وأكرر إنها أبشع وأكبر جريمة فى حق مصر على الإطلاق، فعلينا أن نتخيل كم من الوقت والمجهود والمال الذى ينفق كى نستصلح فدانا واحدا فى الصحراء، وأننا من أكبر مستوردى الغذاء فى العالم، وهو ما يذلنا للمصدرين له ليتحكموا فينا كيفما شاءوا، ومثالا على ذلك القمح، وعندها سندرك أنها أكبر جريمة قام بها شعب فى حق نفسه. وما زالت خيبة أمل مصر تزداد يوما بعد يوم مع أنهار الدم التى تتدفق وتسيل على أرضها، نتيجة قتل أبنائها بعضهم بعضا وتناحرهم، وغيرها من أبشع الجرائم التى ترتكب بكافة أشكالها وصنوفها من أعمال سرقة ونهب وخطف وسطو مسلح واعتداء واغتصاب لبناتها ونسائها، والذى يزداد معه عمق جرح قلبها ونزفه، ناهيك عن التدنى فى مستوى الثقافة والعلم والذى سبقه غياب للقيم والأخلاق، خاصة بين أجيال صغارها وشبابها. وما يزيد حزن مصر ويزيد جرحها عمقا، هو أن ما يحدث بها، يحدث بأيدى أبنائها، فيا حزن أم عندما تطعن من فلذات أكبادها، لكِ الله يا مصر يا أيتها الأم التى تطعنين فى كل لحظة وفى كل حين، وكم مرضتِ وطال بك المرض ولكن دائما تنتصرين على الموت لتظلي على قيد الحياة تحتوين الأحياء من أبنائك بين ثناياك وفى ربوعك وتغدقين عليهم بعطائك الذى لا ينقطع، وتحتضنين أجساد موتاهم بين حبات ترابك الطاهر، نعم لكِ الله يا أرض الكنانه فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، وما سبق وغيره مما يحدث الآن فى مصر إن دل على شىء فإنما يدل على أن الفساد لم يكن فساد حاكم وحاشيته أو نظامه فقط، بل يدل على أن الفساد قد استشرى فى الشعب بكامله، وهذا أيضا يفسر أن بقاء حاكم فاسد وظالم فى حكم شعب لعقود مضت هو أن الشعب كله أو بعضه أعانه على ذلك، لأنك من الصعب أن ترى شعبا مستقيما صالحا ويحكمه حاكم ظالم لأنه سرعان ما سيلفظه ويزيحه ليتخلص من ظلمه، وكذلك الحال من الصعب أن تجد حاكما عادلا يقوى على حكم شعب فاسد وظالم، ومن هنا فإن فساد الراعى واستمراره فى ظلمه هو من فساد الرعية وظلمهم بعضهم البعض، ومن ثم ينطبق عليهم قول الله تعالى "وما ظلمناهم ولكن كانو أنفسهم يظلمون".
وقد يتهمنى البعض أنى حكمت على الشعب بكامله أنه فاسد وظالم على الرغم من أن فيه الصالحين ، أقول له نعم وأنا أولكم، فالفاسد فينا ظلم نفسه وغيره بإفساده، والصالح منا ترك الفاسد يعيث فى الأرض فسادا وسكت عنه، ومن ثم تكون النتيجة أن الشعب بكامله منه من كان فاسدا أو ظالما لنفسه. وإذا ما أردنا أن نتعرف أكثر على فساد الشعب وظلمه لنفسه فلنفتش فى كم قضايا الرشوة وسرقة المال، العام منه والخاص، وأكل مال الغير، وقتل الأخ لأخيه، وقتل الابن لأمه وأبيه، وغيرها من مئات الآلاف من القضايا بكافة أنواعها والتى منها ما حكم فيه ومنها ما هو منتظر ومتراكم فى المحاكم المختلفة والمنتشرة فى ربوع الوطن، وعندها سنعرف هول الكارثة. سيقول البعض إن الحاكم ونظامه هم من كانوا السبب فى كل تلك الأعمال الفاسدة ، أقول نعم هذا صحيح كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، ولكن هل من العدل أو العقل أن نقول إن جميع أعمال الفساد والظلم لبعضنا البعض والإفساد فى الأرض أجبرنا الحاكم على فعلها، أم منها الكثير قمنا بفعله باختيارنا وبكامل إرادتنا، ومن ثم فلا تزر وازرة وزر أخرى. وهل أوتى الحاكم من القوة والعلم ما يمكنه من الإحاطة بكل ما يقوم به رعيته من صلاح أو فساد، أو سيقوم بتعيين رقيب على كل فرد يراقب أفعاله، فما نعلمه هو أن الله وحده سبحانه وتعالى هو الذى أحاط بكل شيء علما، ومع ذلك ومن واسع رحمته وعدله فى خلقه جعل على خلقه حافظين، كراما كاتبين، يكتبون ما يفعلونه ويسجلونه لهم حتى لا يكون لهم عند الله حجة يوم القيامة عند الحساب. ولنضرب مثالا آخر، فقد يكون لأب مجموعة من الأبناء يعيش معهم ويراهم كل يوم ومتابع لهم ولأحوالهم، وسلوكهم أمام عينيه سواء، ولكنه لا يستطيع أن يعرف الصالح منهم من المفسد، لأنه بالطبع سيكون معهم بعض الوقت وليس كل الوقت ومهما أوتى من قوة وقدرة فلن يستطيع أن يذهب مع كل واحد من أبنائه أينما ذهب، فهو قد يستطيع أن يربيهم فى المنزل ويزرع فيهم الموروثات، ولكنه لن يستطيع بأى حال من الأحوال أن يحميهم من المكتسبات فى خارج البيت، ومن هنا لن يستطيع أن يعرف الفاسد منهم إلا إذا كشف ستر فساده من غيره كأن يقبض عليه أو يقوم أحد رآه يفعل المفسدة بإخبار أبيه، بل وحتى إن أخبره أحد يظل الأب نافيا وغير مصدق على ابنه ما هو متهم به مع أنه بالفعل هو من قام به، فكيف بحاكم يتولى أمر الملايين من البشر بأن يحيط بكل أفعالهم وخاصة إذا ما أحاطت به حاشية وبطانة منافقة كاذبة تعينه على الشر وتخبره عكس الحقائق، ومع ذلك فإنهم أيضا من الشعب ونفس الوطن ولم يتم استيرادهم من بلد آخر.
ولذلك كله وغيره مما لا يتسع المجال لذكره فإنه يتضح أن إسقاط الحاكم ونظامه ما هى إلا عملية تغيير لرأس فى جسد طاله الفساد بكامله ولكى يعود هذا الجسد للحياة مرة أخرى ويعمل بكفاءة فلابد من تغيير الجسد بالكامل وليس استبدال رأسه فقط، وماذا تفعل الرأس بجسد قد ملأه العطب وأصبحت كل أعضائه فاسدة. وهذا بالضبط ما أحدثته ثورة الخامس والعشرين من يناير أنه تم تغيير الرأس ألا وهى الحاكم ونظامه وظن العقلاء والطيبون فى بداية الأمر أنه بهذا ستتبدل الأحوال وتسير إلى الأفضل، ولكن سرعان ما كشف الجسد ألا وهو الشعب عن علته ومرضه وأنه قد أصابه ما أصاب الرأس من فساد.
وعلى أى حال أيا كان من أصيب بمرض الفساد أولاً، الرأس أم الجسد، ثم أصاب الآخر، فإن الثورة التى قامت قد غيرت الرأس بالتخلص من الحاكم ونظامه ولكننا لا زلنا فى حاجة إلى الثورة الحقيقية و الأهم والأصعب، ألا وهى ثورتنا على أنفسنا لتغيير الجسد، هذا إذا ما كنا فعلا نريد أن نصل بالأم الحبيبة الغالية مصر إلى حيثما نريد ونتطلع إليه، فهيا بنا نثور على أنفسنا ليصلح كل منا ذاته ويراقب ربه فى كل ما يفعل، هيا بنا لنعيد الروح لضمائرنا كى تعود للحياة بعد أن قتلت، هيا بنا فلن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم